استهلت أسواق السلع تداولاتها في شهر مارس على أسس أكثر استقراراً بعد أن أكدت البيانات الواردة بأن الأنشطة الاقتصادية في أكبر مستهلك للمواد الخام في العالم قد بدأت باستعادة زخمها. ولكن تراجعت مكاسب نتيجة لاحتمال ثبات التضخم في مناطق أخرى، ما يؤدي إلى ارتفاع أسعار الفائدة وانخفاض معدلات النمو فيها. ويأتي ذلك بعد ارتفاع مستويات التضخم في المنطقة الأوروبية بنسبة 8.5% على أساس سنوي في شهر فبراير، أي دون أي تغيير عن شهر يناير، وبما يخالف التوقعات التي أشارت إلى إمكانية انخفاضها؛ بينما ارتفعت الضغوط الناجمة عن ارتفاع الأسعار الأساسية إلى مستويات قياسية جديدة بلغت 5.6%. وسجلت سندات الخزينة الأمريكية لأجل 10 سنوات ارتفاعاً بمقدار 4% للمرة الأولى منذ شهر نوفمبر الماضي نتيجة للبيانات التي تشير إلى استمرار الضغوط السعرية. ويؤكد ذلك الرؤية القائلة بأن الاحتياطي الفدرالي الأمريكي سيواصل رفع أسعار الفائدة، ثم سيُبقي عليها لأطول فترة ممكنة حتى تتم السيطرة على التضخم.
ويتم التسعير حالياً في سوق المبادلة وفق ذروة أسعار الفائدة الأمريكية والتي تبلغ حوالي 5.6% في شهر سبتمبر، بينما يتطلب انتعاش سوق العقود الآجلة تحقيق انخفاض بنحو 1% في أسعار الفائدة خلال الأشهر الـ 12 القادمة. وبمعنى آخر، يجب أن تحافظ البيانات الاقتصادية الواردة على قوتها حتى تتمكن من دعم رفع أسعار الفائدة بمقدار 75 نقطة أساس المحددة حالياً. وقد يؤدي أي ضعف في تلك البيانات إلى تراجع التوقعات وتقصير مدة ذروة أسعار الفائدة. ويؤدي ذلك إلى تصاعد المخاوف المتعلقة بالنمو، كما يدعم الرغبة بالمجازفة نتيجة لما يرافقه من ضعف في الدولار الأمريكي وتراجع في عوائد السندات.
هل ستسهم “الجلستان المرتقبتان” في الصين بتعزيز زخم انتعاشها الاقتصادي؟
بعد تراجع توقعات انتعاش الاقتصاد الصيني في مرحلة ما بعد كوفيد-19، عادت هذه التوقعات إلى الواجهة مجدداً بعد ارتفاع مؤشر مديري المشتريات الصناعية لشهر فبراير إلى أعلى مستوياته منذ عام 2012. وأشار تقرير آخر إلى ارتفاع مبيعات المنازل في الصين للمرة الأولى من 20 شهراً بعد قيام صناع السياسات في الدولة بتكثيف دعمهم لهذا القطاع المتعثر. وبحسب التقرير، فإن قوة التعافي الاقتصادي الحالي مفاجئة بالنسبة لقادة الصين، مما يشير إلى أن الحكومة الصينية ستكون مقيدة في اتخاذ إجراءات تحفيزية خلال هذا العام.
وانطلاقاً من ذلك، تتوجه الأنظار حالياً إلى الحكومة الصينية، والإجراءات التي تعتزم اتخاذها لدعم التعافي الاقتصادي. إذ تنطلق حوارات الجلسة الأولى للمجلس الوطني الـ14 للمؤتمر الاستشاري السياسي للشعب الصيني في 4 مارس المقبل، ويعقبها في اليوم التالي انطلاق الدورة الأولى للمجلس الوطني الـ14 لنواب الشعب الصيني. وخلال ما يُعرف باسم “الجلستان“، يعتزم المسؤولون الصينيون إطلاق مجموعة من أهداف التنمية الاجتماعية والاقتصادية، بالإضافة إلى إصدار التوقعات الرسمية للنمو وتحديد التدابير السياسية المختلفة لتحقيقها.
أسواق السلع تتجه نحو التعافي بعد الصعوبات التي واجهتها في شهر فبراير
شهدت أسواق السلع حالة من الترقب في معظم أيام شهر فبراير الماضي، مع تسجيل خسائر في مختلف أنواع السلع الأساسية، بدءاً من الطاقة ووصولاً إلى المعادن الصناعية والثمينة. وجاءت هذه الخسائر مدفوعة في المقام الأول بالإحصائيات الاقتصادية في الولايات المتحدة، بما في ذلك التضخم، والتي دفعت مجلس الاحتياطي الفدرالي لاتخاذ موقف أكثر تشدداً والقيام في الوقت نفسه برفع عوائد السندات وقيمة الدولار الأمريكي، مما يؤثر سلباً على الرغبة بالمجازفة في أسواق الأسهم والسلع. وبينما ساهمت البيانات الواردة من الصين في تهدئة هذه المخاوف بعض الشيء، تحافظ التوقعات قصيرة الأمد على طابعها المتوازن نتيجة لعدم وجود محفّز قوي لتحريك حالة الجمود في السوق صعوداً أو هبوطاً. ويتجلى ذلك بشكل أكبر في سوق الطاقة، حيث يتم تداول النفط الخام ضمن نطاقات محددة منذ أواخر شهر نوفمبر.
وشهد مؤشر بلومبرج للسلع الرئيسية، والذي يقيس أداء العقود الآجلة لـ 24 سلعة رئيسية متنوعة تشمل الطاقة والمعادن والزراعة، انخفاضاً في التداولات بنسبة 4.2% خلال العام، بعد تراجعه بنسبة 4.7% خلال الشهر الماضي والذي أدى إلى خسارة المكاسب التي حققها في شهر يناير، وخاصة في قطاعي المعادن الصناعية والثمينة. وتوزعت المكاسب المتحققة على السلع الخفيفة التي تشمل القهوة والسكر والقطن، والتي جاءت جميعها مدعومة بتوقعات تراجع العرض. بينما يرزح قطاع الطاقة تحت ضغوطات شديدة، ويرجع ذلك أساساً إلى الخسائر التي تتكبدها سوق الغاز الطبيعي الأمريكية نتيجة لوجود فائض في العرض. وكما هو الحال في القارة الأوروبية، تراجعت أسعار الغاز الطبيعي في الولايات المتحدة خلال الشهر الماضي، حيث أدى الشتاء الدافئ إلى انخفاض الطلب على وقود التدفئة، قبل أن يسجل مكاسب مفاجئة بنسبة 30% خلال الأسبوع الماضي بفضل ظهور مؤشرات على تراجع الإنتاج نتيجة لانخفاض الأسعار، وارتفاع صادرات الغاز الطبيعي المسال إلى أعلى مستوى لها في عام واحد.
استقرار أسعار النفط الخام على المدى القصير
تشير الترجيحات المتعلقة بأسعار النفط الخام إلى أننا سنشهد عاماً ينقسم إلى نصفين مميزين. إذ من المتوقع أن يبقى الطلب محدوداً في السوق خلال النصف الأول من العام، حيث تسهم المخاوف المتعلقة بالنمو العالمي في التعويض عن مستويات الطلب القوية والمتنامية على النفط في الصين والهند. أما خلال الفترة اللاحقة من العام، فإننا نتوقع ظهور مخاطر كبيرة بتراجع الإمدادات المتاحة في السوق نتيجة لعدم حدوث ركود في أوروبا والولايات المتحدة، وبالتالي يتحول فائض العرض المتاح في السوق إلى عجز عن مواكبة الطلب. كما أن الحرب طويلة الأمد في أوكرانيا تجعل من الصعب على روسيا أن تحافظ على مستويات الإنتاج الحالية، ويرجع ذلك أساساً إلى صعوبة إعادة توجيه إمداداتها النفطية بعيداً عن القارة الأوروبية. ويضاف إلى ذلك كله تصاعد المنافسة مع مصافي النفط في منطقة الشرق الأوسط، المركز الناشئ لتكرير النفط والذي سيشهد زيادة كبيرة في قدرة الإنتاج خلال النصف الثاني من العام.
ويفتقر النفط الخام، ذو النطاق السعري المحدود منذ شهر نوفمبر، إلى المحفزات التي قد تدفعه للخروج من نطاقاته السعرية، والتي تراوحت في خام برينت بين 80-89 دولار أمريكي، ونفط خام غرب تكساس الوسيط بين 73-83 دولار أمريكي للبرميل. وساهمت البيانات الاقتصادية القوية في الصين في التعويض عن المخاوف المستمرة بشأن التوقعات الاقتصادية في الولايات المتحدة وأوروبا، والتي تتجه فيها أسعار الفائدة للارتفاع بشكل أكبر خلال الأشهر المقبلة. وأفضت هذه التطورات، بالإضافة إلى تراجع الدولار الأمريكي والفوارق السعرية السريعة التي تشير إلى تراجع الإمدادات في السوق، إلى تحقيق مكاسب أسبوعية صغيرة. ويشير الإغلاق الأسبوعي لتداولات خام برنت فوق معدله المحرك المتحرك لفترة 21 يوم، والذي يبلغ 83.75 دولار أمريكي؛ إلى وجود بعض الزخم الإضافي للارتفاع، ولكننا لا نتوقع بشكل عام أن نشهد اختراقاً للنطاقات المذكورة أعلاه قريباً.
بيانات التزامات المتداولين تدعم ارتفاع أسعار خام برنت
أصدرت بورصة إنتركونتيننتال أوروبا للعقود الآجلة في يوم الجمعة 24 فبراير الماضي بيانات التزامات المتداولين التي تأخرت لمدة أربعة أسابيع، حيث أصبحت التقارير الصادرة عنها الآن تتضمن آخر المستجدات بعد أن سبب الهجوم السيبراني الذي تعرضت له شركة آي أو إن تريدنج في المملكة المتحدة خلال شهر يناير الماضي تأخير بعض التقارير الخاصة بالتداولات. بينما أصدرت لجنة تداول السلع الآجلة الأمريكية تقريراً واحداً حول التزامات المتداولين للأسبوع المنتهي بتاريخ 31 يناير، والذي تضمّن بيانات قد لا يتم تحديثها قبل ثلاثة أسابيع أخرى. وأظهرت بيانات تداول خام برنت في بورصة إنتركونتيننتال دعماً قوياً لارتفاع الأسعار، حيث تمتلك استثمارات طويلة الأمد في العقود الآجلة تبلغ 277 ألف لوت، وهو أعلى مستوى خلال 16 شهراً وأضعف مركز إجمالي لصفقات البيع على المكشوف عند 28 ألف لوت منذ عام 2011.
الطلب على الذهب يعاود ارتفاعه نتيجة لاستمرار التضخم
كان الذهب يتجه لتحقيق أفضل أسبوع له منذ منتصف شهر يناير الماضي بعد ارتفاع مستويات التضخم في الاتحاد الأوربي، والبيانات الاقتصادية القوية الواردة من الصين، أكبر مشترٍ للذهب. وأدى ذلك إلى تراجع الدولار الأمريكي، وارتفاع أسعار الذهب إلى مستويات تقارب معدله المتحرك لفترة 21 يوم، والذي يبلغ حالياً 1844 دولار أمريكي، وذلك للمرة الأولى منذ يوم 3 فبراير الماضي. وخلال وقت سابق من هذا الأسبوع، أشار رافائيل بوستك، رئيس الاحتياطي الفيدرالي في أتلانتا، إلى إمكانية أسعار فائدة بنك الاحتياطي الفدرالي لتبلغ 5.25%، وأن تستقر عند هذا الحد حتى عام 2024؛ ولكن بالنظر إلى أن تحديد الأسعار بالسوق يتم فعلياً بناءً على أسعار فائدة تتجاوز 5.5%، فإن تأثير هذا التصريح لن يكون له تأثير سلبي كبير على الأسعار.
وتجدر الإشارة أيضاً إلى أن الارتفاع البالغ 10 نقاط أساس في عائدات السندات الأمريكية لأجل 10 سنوات جاء مدفوعاً بشكل أساسي بزيادة معدلات التساوي بين الأرباح والخسائر (نتيجة للتضخم)، وبذلك تبقى العوائد الحقيقية ثابتة تقريباً. ويدعم ذلك توقعاتنا طويلة الأجل بأن استمرار التضخم سيؤدي بمرور الوقت إلى إعادة تسعير أعلى من توقعات التضخم المستقبلية. وإلى جانب الطلب الأساسي من البنوك المركزية، فإن الاتجاه التصاعدي المحتمل للذهب لم يتأثر بعملية التصحيح التي شهدها مؤخراً. ولكن حتى يتمكن التعافي الحالي من جذب المشترين الفاعلين، فإنه يتعين على الذهب والفضة تسجيل أسعار تتجاوز عتبة 1864 دولار أمريكي و22 دولار أمريكي على التوالي كحد أدنى حتى تنتهي عملية التصحيح الحالية.
المصدر: ساكسو
مؤشر مديري المشتريات في الصين يدعم سوق المعادن الصناعية
سجلت معادن النحاس والألمنيوم والزنك والحديد ارتفاعاً ملحوظاً في تداولاتها في أعقاب البيانات الاقتصادية الواردة من الصين والمشار إليها آنفاً، والتي تُبين وجود تحسن في نشاط المصانع، إلى جانب ارتفاع مبيعات المنازل، وكلاهما يعزز التوقعات المتعلقة بتحقيق انتعاش متسارع في الطلب. وساهمت هذه الأخبار بإضافة مزيد من الزخم إلى تعافي سوق النحاس، والتي حصلت على الدعم مجدداً لتسجل نطاقاً سعرياً يقل قليلاً عن 4 دولارات أمريكية.
ولكن نتيجة للارتفاع القوي الذي شهدته مخزونات المعدن في نيويورك ولندن وشنغهاي وغيرها لتبلغ أعلى مستوى لها منذ شهر سبتمبر 2021، فإن احتمال حدوث انتعاش قوي وفوري لن يكون مرجحاً حتى تتم معالجة هذا الكم الهائل من المخزونات من خلال ارتفاع مستويات الطلب، وهي عملية يمكن أن تستغرق أشهراً طويلة حتى تحدث. وتتجه الأنظار حالياً نحو “الجلستين” في الصين لمعرفة الإجراءات التي ستتخذها الحكومة لتعزيز الانتعاش الاقتصادي في مرحلة ما بعد الإغلاق.
ونحافظ على توقعاتنا المتفائلة بشكل عام حول المعادن الصناعية، ولاسيما النحاس. ولكن، ونتيجة لتراكم المخزونات المشار إليه أعلاه، فإننا لا نرجح حدوث ارتفاع كبير في أسعار النحاس حتى الربع الثاني من هذا العام أو بعده. ويعتمد توقيت هذا الانتعاش على التوقعات الاقتصادية في باقي أنحاء العالم، وفيما إذا كان من الممكن – كما نعتقد – تجنّب الركود. وفي الوقت الحالي، ستتجه الأنظار في السوق نحو مراقبة التحركات السعرية، ولاسيما استجابة المتداولين لإعادة اختبار المستوى السعري 3.95 دولار أمريكي أو 4.24 دولار أمريكي، وهو الذروة التي حققتها أسعار النحاس في شهر فبراير الماضي.