أسبوع من السباق المحموم بين أعرق وكالات الانباء والمواقع الاخبارية الشهيرة لتغطية أخبار تمرد فاغنر وما حل بزعيمها يفغيني بريغوجين وملاحقة الغوصة المنكوبة تايتن ولحظاتها الأخير على عمق 3000 متر في اعماق المحيط.
قضية فاغنر لم تشغل الاعلام التافه فقط بل امتدت لتشمل الخبراء والمسؤولين في جميع انحاء المعمورة وأصبح الجميع لديهم القدرة العملانية على متابعة زحف قواته نحو موسكو بالصوت والصورة وتغطية شاملة لكل متر تقطعه دباباته الزاحفة وكأن مدينة موسكو مجرد زاقوق في مدينة الملاهي أو كأن الكرملين والرئيس بوتين هم مجرد خيمة على الطريق السريع.
لم يتوانى أعلاميو السوشيل ميديا من فبركة أي شيء في أي موضوع لركوب ما يسمى موجة الترند الصاعد ، فملاحقة الترند أصبح محرك ما يمكن الكتابة عنه أو البحث فيه ولم يبقى ما يكتب عنه في العالم إلا الغوصة تيتان التي لا تصلح لتكون أي شيء نافع ناهيك عن كونها غوصة أعماق .
أحداث العالم الأخرى لم تعد ذات قيمة تذكر مهما بلغ حجمها فهي لا تستقطب متابعين ولا تشد القراء السخفاء الذين لا يتابعون الحدث لقيمته ولأهميته بل يتابعونه بدافع الفضول واللإثارة وتعبئة وقتهم الفارغ من أي معنى، لم تعد حرب أوكرانيا ذات معنى ولا أشلاء المتقاتلين في أفريقيا تعني شيء ولم يعد الجوع الذي يضرب العالم ذات قيمة لأحد بل المتابعة الآن ماذا حل أو سيحل بزعيم فرقة المرتزقة فاغنر والخبر المميز هو الذي يتحدث عن مواصفات غوصة الباص تيتان.
نعم، نحن الآن في مرحلة الحضيض الأعلامي التي تتماشى مع ثقافة الانحدار الذي صنعته فورة التواصل الاجتماعي التي لا تعبر عن حفنة من الذين غرتهم سهولة الصعود والشهرة على حساب المصداقية واليقين ناهيك عن الرزانة واحترام عقول المتليقين.
من عاصر المحطات الرئيسية لما مر به الاعلام خلال القرن المنصرم يعلم بالفطرة أننا في مرحلة حرجة لم يعد للاعلام الحقيقي أي وجود يذكر حيث طغت لغة الترند على ما سواها حتى أصبحت هي اللغة الوحيدة المعترف بها يغذيها ويسهر على تنامي هذه الظاهرة حيتان البروباغندا في العالم .
ما تشهده وسائل الإعلام ومواقع الاجتماعية في العصر الحالي من تحولات جذرية في نهج تغطية الأخبار وتعاملها مع الجمهور. حيث تزايدت أهمية الترفيه والشائعات، وازدادت القضايا الجادة والأحداث ذات الأهمية العالمية تجاهلًا. يبدو أننا نعيش في مرحلة انحدار للصحافة وغياب للمصداقية والتحليل العميق.
انتشار الأخبار الزائفة والمعلومات غير المؤكدة تعبر غن تغيير جوهري في اهتمامات الجمهور حيث أصبح الجمهور أكثر ميلاً للاخبار الترفيهية والشائعات وأخبار الاثارة ولم يعد يلقي اهتماماً للأخبار الجادة والموضوعية.
ليس هذا فقط بل أصبحت الوسائل الإعلامية ومواقع التواصل الاجتماعي تعتمد بشكل كبير على الإعلانات وتحقيق الأرباح المادية مما ينعكس ذلك في توجهها نحو المحتوى الترفيهي والشائعات الجذابة لجذب المزيد من المشاهدين والمتابعين. وبالتالي، قد يتم تجاهل قضايا أكثر جدية وأهمية لصالح تلك القضايا الترفيهية وذلك في سبيل كسب المزيد من الأرباح من خلال عوائد الاعلانات.
تعيش وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي في مرحلة تحولات جذرية، حيث يؤثر التواجد الكبير لوسائل التواصل الاجتماعي على تغطية الأخبار وتفضيل الأخبار الترفيهية والشائعات على حساب الأحداث الجادة والقضايا العالمية. يجب أن يتحمل الجمهور والوسائل الإعلامية مسؤوليتهما في تعزيز الوعي الإعلامي والتحليل العميق، والتحقق من مصداقية المعلومات قبل تبنيها.
من المهم أن نسعى للتنوع في التغطية الإعلامية والعودة إلى القضايا الهامة والأحداث ذات الأهمية الكبيرة، وأن ندعم وسائل الإعلام الموثوقة التي تقدم تحليلات شاملة وموثوقة. علاوة على ذلك، يجب علينا جميعًا تطوير مهارات التحليل والتمييز للتصدي للأخبار الزائفة والتأكد من صحة المعلومات قبل اعتبارها حقائق صحيحة.
من خلال التوعية والممارسة الحكيمة لاستخدام وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، يمكننا العمل سويًا لإعادة توجيه المشهد الإعلامي نحو مصداقية أكبر وتركيز على القضايا الجادة والمعلومات الموثوقة. إن توفير منصات إعلامية قوية وموثوقة يساهم في بناء مجتمع متعلم ومستنير قادر على اتخاذ قرارات معرفية ومسؤولة.